الأحد 2 تشرين الثاني 2025 - 0:07
كتب (هشام عليوان)
يُعتبر كتاب المؤرّخ الأردني الدكتور مهنّد مبيضين: "العثمانيون بعيون عربية. الذهنيات والصورة المركّبة: من الجهاد إلى الاستبداد"، الصادر عن دار جداول في تموز الماضي، (410 صفحات) نقلة نوعية في دراساته التاريخية المرتبطة بالحقبة العثمانية؛ فمن المواضيع الجزئية التي انطوت عليها كتبه السابقة في الفضاء نفسه، والتي تتكشّف فيها صفحات محدّدة من الحياة الثقافية والسياسية العربية في ظلال العصر العثماني؛ مثل "أهل القلم ودورهم في الحياة الثقافية في دمشق خلال الفترة (1121-1172هـ/1708-1758م" (2005)، الصادر عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، في دمشق، و"فكرة التاريخ عند العرب في العصر العثماني، محمد خليل المرادي ودوره في الكتابة التاريخية" (2007)، الصادر عن دار ورد للنشر والتوزيع، في عمان، و"الفكر السياسي الإسلامي والإصلاح: التجربتان العثمانية والإيرانية" (2007)، في بيروت، الصادر عن الدار العربية للعلوم/ناشرون، و"ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة: دمشق العثمانية" (2009)، عن الدار نفسها، فضلاً عن الأبحاث المنشورة في المجلات المتخصّصة، ينتقل الباحث في كتابه الأخير إلى موضوع أكثر شمولية، ويغطّي حِقَباً متعاقبة من سيطرة الدولة العثمانية على البلاد العربية عقب معركة مرج دابق مع المماليك عام 1516م، وحتى انقضائها بقيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك (-1938م) عام 1923؛ وذلك من باب رصد الصورة العثمانية المنعكسة في عيون المؤرخين والرحّالة العرب على مدى الأعصر، وبلحاظ المتغيّرات السياسية التي أثّرت في نظرتهم إلى الدولة العليّة.
يقول مبيضين إنه ليس من أهداف هذه المراجعة، أي الكتاب الموسوم، تبديد الصورة السلبية التي حكمت النظرة العربية للعثمانيين، ولعله كان يقصد هذه النظرة في أواخر الدولة العثمانية، وبخاصة في زمن حكم الاتحاد والترقي، في الفترة ما بين الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني (-1918م) عام 1908م، واحتلال الحلفاء لإسطنبول عام 1918م عقب هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الأولى، وكانت الدولة العثمانية عضواً في هذا المحور. ويقول الكاتب أيضاً إن هذه المراجعة لا تهدف إلى الدفاع عن العثمانيين، بقدر ما تحاول مراجعة الخطاب التاريخي، والصورة النمطية والذهنية التي تكوّنت عنهم في البلاد العربية، منذ بداية دخولهم إليها، مطلع القرن السادس عشر الميلادي وإلى حين خروجهم من المغرب العربي مع دخول الاستعمار الفرنسي، وكذلك من المشرق العربي بنهاية الحرب العالمية الأولى. لكن ماذا تعني المراجعة بحدّ ذاتها؟ هل هي مراجعة نقدية لما جاء في شهادات المؤرخين العرب بشكل خاص، والذين كانوا معاصرين للسلطة العثمانية في حِقبها المتنوعّة، أم هي فقط استعراضٌ للآراء المتناقضة بإزاء السلطة الجديدة التي أزاحت أولاً سلطة المماليك في الشام ومصر، وتمدّدت إلى الجزيرة العربية، وتوغّلت في الشمال الإفريقي، مع تدخل الكاتب أحياناً لتعديل كفة الميزان حفاظاً على الموضوعية؟
قبل محاولة رصد هذه الجزئية المهمة، في السياق الآتي، لا بدّ من التأكيد على أن الجهد الكبير الذي قام به المؤرخ لفحص الصورة الكلّية للدولة العثمانية في عيون المؤرخين العرب خاصة، قد قام على منهج الاستعانة بأصول ومدوّنات تاريخية متنوّعة، من أجل الخروج بحكم عام عن الكيفية التي كُتب بها التاريخ العثماني عربياً، من دون الإحاطة بكل المصادر، بل جرى انتقاء بعضها لما تتضمّنه من دلالات.
صدمة سقوط المماليك
كان متوقعاً أن تختلف نظرة المؤرخين العرب إلى الروم وسلطانهم، عندما زحف العثمانيون إلى الشام ومصر؛ وكانوا يلقّبون السلطان سليم الأول (-926هـ/1520م) بملك الروم. فمنهم من كان محايداً مثل المؤرخ الدمشقي أحمد بن محمد الشهير بابن الحمصي (-934هـ/1527م)، كتابه: "حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران"، ومنهم من سجّل تجاوزات الجنود العثمانيين في دمشق، كمحمد بن علي، ابن طولون الدمشقي (-953هـ/1545م)، في كتابه: "مفاكهة الخلّان في حوادث الزمان". ومنهم من شبّه أفعال العثمانيين في القاهرة بما فعله البُخت نصر (-562 ق.م) الملك الكلداني عندما اجتاح بلاد الشام، كالمؤرخ محمد بن أحمد، ابن إياس (-930هـ/1523م) في كتابه: بدائع الزهور في وقائع الدهور. ولا يتوانى الكاتب في هذا المجال، عن الإشارة إلى أن الصورة السلبية جداً التي رسمها ابن إياس عن الغزو العثماني لمصر، قد تكون بسبب انحيازه إلى المماليك، وهو من كان أعيان القاهرة في زمانهم. لكن هل يعني ذلك، أن ابن إياس بالغ في وصف الأحداث، أو على الأقل لم يكن موضوعياً، فذكر سيئات القوم دون حسناتهم مثلاً؟ يقول مبيضين: إن سلوك الجيش كما السلطان سليم، لم يُسعفا المؤرخ المصري ابن إياس كي يقدّم صورة إيجابية، فوثّق صورة مباشرة لمآل الحكم والتعدّيات. ويحاول الكاتب نقد سردية ابن إياس، لكن كثافة الأحداث التي يرويها المؤرخ المصري المعاصر لسقوط المماليك، والحبكة الحكائية، طغتا على محاولة النقد، فكأن النقد قد انقلب إلى تبرير لما أورده ابن إياس.
مفارقة بين لحظتين
ومع مرور ما يقارب القرنين على ضمّ مصر إلى أملاك العثمانيين، ذهبت الكتابات العربية إلى تمجيد السلطنة التي كانت تستأنف سيرة الجهاد الأول، ومن أمثلتها ما سطّره المؤرخ المكي عبد الملك بن حسين العصامي (-1111هـ/1699م)، في كتابه: "لطف السمر وقطف الثمر من تراجم الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر". وفي القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، اقترب العلماء أكثر من أي وقت مضى في دمشق والمدن العربية الأخرى من الولاة والسلاطين. ولذلك، حرص محمد خليل بن علي المرادي (-1206هـ/1791م)، وهو ابن أسرة من الأشراف، والمتدرّج في الوظائف الرسمية على إظهار مستويات مختلفة لعلاقة العلماء بالسلطة المحلية في دمشق، أو الباب العالي في إسطنبول، وذلك في كتابه: "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر". ومع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، عاش المؤرخ العربي بحسب مبيضين، لحظة تاريخية مشابهة لوصول العثمانيين إلى المنطقة العربية، بالتزامن مع الوصول الغربي عبر الكشوف الجغرافية إلى جنوب الجزيرة العربية وسواحل بحر عُمان، وهي برأي مبيضين، لحظة المواجهة بين دار الكفر ودار الإسلام، لدى قيام نابليون بحملته العسكرية على مصر وبلاد الشام بين عامي 1789 و1799م. ويُرجع الكاتب تشابه اللحظتين التاريخيتين، إلى تداخل الصور، بين الفرنسي الغازي، والإنجليزي الصديق آنذاك، والدولة العثمانية التي هي دولة الدين والدنيا بلغة المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (-1237هـ/1822م). لكن من غير الواضح للقارئ، وجه الشبه بين اللحظتين، وثمة مفارقات بين التغلب العثماني على المماليك قبل قرنين تقريباً، والغزو الفرنسي لمصر والشام. وإلى ذلك، تفاوتت نظرة القوى المحلية في الشام إلى جيش نابليون وهو يحاصر عكا، وواليها آنذاك، هو أحمد باشا الجزار (-1804م)، وقد صمد أمام الجيش الفرنسي. ففيما أُعجب أنطونيوس أبو خطار العينطوريني بنابليون، وذلك في كتابه: "مختصر تاريخ جبل لبنان"، يرسم الأمير حيدر بن أحمد الشهابي (-1251هـ/1835م)، الصورة المتنوّعة لعلاقة العثمانيين مع القوى المحلية، في كتابه: "تاريخ أحمد باشا الجزار"؛ فالأقليات لم تكن مرتبطة بالولاء لبني عثمان، فيما كان آخرون معنيين بتقديم العون للجزار في مواجهة الجيش الفرنسي، لا بصفته تابعاً عثمانياً، بل زعيماً إقليمياً يدافع عن أرضه التي تركها غالب أهلها خوفاً من الغزاة، بحسب ما رأى مبيضين.
تبرير الانقلاب على عبد الحميد
وخلال حقبة الإصلاحات العثمانية أو ما سُمّي بالتنظيمات بين عامي 1839 و1876م، لم تحدث تغييرات بنيوية في الكتابة التاريخية التي اتسمت بمدح الدولة العثمانية وسلاطينها، لا سيما مع إقرار الإصلاحات التي رحّبت بها النُّخب العربية. ثم جاء الانقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1908م، فظهرت كتابات تنتقد الاستبداد في الحكم وتبرّر الانقلاب على السلطان، واعتبر مبيضين أن روحي ياسين الخالدي (-1913م)، هو نموذج كُتّاب مرحلة الاستبداد الحميدي. فهو درس القانون في الآستانة، والعلوم السياسية في باريس، وكان عضواً في مجلس النواب العثماني لدورتين متتاليتين. ويقول الخالدي في كتابه: "الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة أصدق تاريخ لأعظم انقلاب": إن الاستبداد يقود إلى الانقلاب. أما في طرابلس الغرب التي تعرّضت للاحتلال الإيطالي، فكان للعثمانيين فيها صورة إيجابية، كما ظهر مع المؤرخ أحمد بك الأنصاري المعروف بالنائب (-1333هـ/1914م)، وذلك في كتابه: "المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب". وكان لشكيب أرسلان (-1946م) رأيه الإيجابي بالدولة العثمانية، لا سيما في كتابه: "تاريخ الدولة العثمانية"؛ فهو تقلّب في الوظائف، وكانت له صلات وثيقة برجال الحكم، إلا أنه هرب من بيروت عام 1916م لأنه كان مطلوباً من أحمد جمال باشا السفاح (-1922م). وبعد انقضاء الدولة العثمانية، عمل مع الحركة العربية في فلسطين وسوريا. إلا أنه ربما فات الكاتب الانتقادات الموضوعية التي أوردها أرسلان حتى للعهد الحميدي، وذلك في تعليقاته على مقدّمة ابن خلدون (-808هـ/1406م). ويرصد الكردي السوري، العلّامة محمد كرد علي (-1953م)، عثرات سلاطين الدولة العثمانية في كتابه: "خطط الشام"، فيحاول مبيضين الردّ على ما أورده من مثالب لهم، معتبراً أن محمد كرد علي يركّز على سيئات السلاطين، ويتغاضى عن حسناتهم. لكن مع سقوط الدولة العثمانية، وظهور الشعور القومي لدى الأتراك والعرب على حدّ سواء، كان منتظراً أن ينعكس ذلك في الكتابات الحديثة، بحيث بات رائجاً انتقاد الماضي العثماني في كتابات المؤرخين العرب. ومنهم من كان اتحادياً عثمانياً، فأضحى قومياً عربياً معادياً للأتراك؛ كمثل رستم حيدر (-1940م)، وهو من القادة العرب الذين عاشوا التجربة الدستورية العثمانية. وكان أحد أبرز رجالات حقبة الاتحاد العثماني، ثم شارك في الحركة العربية، فكان من رجال دولة فيصل بن الحسين (-1933م). إلا أن الكاتب أغفل شخصية قومية مشهورة، انتقلت بدورها من حركة التتريك أيام الاتحاديين، إلى القومية العربية، وعمل أيضاً مع الملك فيصل في سوريا ثم في العراق، وهو ساطع الحصري (-1968م)، إلا أن السبب يكمن على ما يبدو بتركيز الحصري على مرحلة تأسيس الدولة العربية، وإهمال ما سبقها. واستمرّ هذا النهج المنحاز ضد الدولة العثمانية، إلى أن بدأت الكتابات التاريخية العلمية تتوازن تدريجياً مطلع خمسينيات القرن الماضي.
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط



