
الخميس 16 تشرين الأول 2025 - 0:00
خاص (أيوب)
الزيارة الأولى للرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو، ولقاؤه الفريد من نوعه مع عدوه السابق الذي تقاتل وإياه منذ عام 2015، لها من المعاني السياسية والرمزية البليغة، وهي قد تفوق بأهميتها أي اتفاقات أو تفاهمات أمنية أو عسكرية أو سياسية أو اقتصادية يمكن أن تكون ذات جدوى عملية في الواقع السوري. وهذه الزيارة لم تكن أيضاً من فراغ، بل هي نتيجة منطقية لسلسلة من الخطوات التي اتخذها الطرفان، العام الماضي، ابتداء من عملية "ردع العدوان"، حين كانت جحافل الثوار أمام مدينة حماة، وكان أمام الروس خيار من اثنين: إما الدفاع عن نظام يتهاوى جيشه، وتتبخر ميليشياته بسرعة البرق، حتى النهاية المحتومة، وإما الخضوع لمنطق الأمر الواقع، والتخلي عن النظام الساقط لا محالة، إبقاءً على فسحة أمل باحتفاظ موسكو بموطئ قدم لها في سوريا ولو بعناوين وغايات مختلفة.
وإذا كان العنوان الأبرز شعبياً للقاء الشرع بغريمه بوتين، هو تسليم الرئيس الفارّ بشار الأسد والضباط الآخرين اللائذين بروسيا، من أجل محاكمتهم في سوريا على ما ارتكبت أيديهم، فإن هذا الملف عينه قد يكون هو الورقة الرابحة للشرع كي يحصل على ما أمكن من مكاسب حيوية للشعب السوري، بل هي في حقيقة الأمر "ورقة ضاغطة" على موسكو؛ إذ ليس من المصادفة تزامن الزيارة التاريخية، مع انتشار تحقيق قامت به وكالة رويترز يتعلّق بنقل النظام السابق، عدداً هائلاً من جثث المعتقلين من مقبرة جماعية إلى منطقة نائية في "الضمير" الواقعة في محافظة ريف دمشق، على أطراف بادية الشام، لإخفاء جرائمه، وذلك بين عامي 2019 و2021.
تمهيد للقمة
كانت موسكو أول من بادرت إلى التواصل الرسمي مع الحكام الجدد لسوريا، وذلك في كانون الثاني الماضي، عندما أتى وفد روسي إلى دمشق، على رأسه نائب وزير الخارجية الروسية، ميخائيل بوغدانوف، الذي التقى الرئيس الشرع. وكان الردّ السوري في 31 تموز الماضي، عندما قام وفد رفيع المستوى بزيارة موسكو، وضمّ وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة. واجتمع الوفد بوزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع أندريه بيلوسوف، وبحث الجانبان ملفات التعاون السياسي والعسكري، ومراجعة الاتفاقيات السابقة بين البلدين في زمن النظام البائد. وفي خطوة مفاجئة، استقبل الرئيس فلاديمير بوتين الوفد السوري، في تجاوز واضح للبرتوكول. وفي هذه الزيارة، دُعي الرئيس الشرع للمشاركة في القمة التي كان من المقرر عقدها في الشهر الجاري، بين روسيا والدول العربية. ومع تأجيل القمة المذكورة، عمد الشرع إلى زيارة موسكو. وكان حريصاً على تلبية الدعوة، بعد شهر تقريباً على لقائه بالعدو اللدود لبوتين، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين أوكرانيا وسوريا رسمياً. وهذه المهارة المشهودة للشرع في الجمع بين الأضداد، تحت عنوان الانفتاح غير المحدود على جميع الدول، مع استثناء تلك التي تُضمر الشرّ لسوريا، لمما يميز نهجه البراغماتي.
الفوائد المشتركة
بما أن رائحة الدم عابقة في أروقة الكرملين، نتيجة تدخلها الشرس إلى جانب النظام السابق، منذ عام 2015، فليس من المنتظر الانتقال فجائياً من العداوة إلى الصداقة، بل ما يجمع الطرفين الآن، هو المصالح المشتركة. روسيا تريد الحفاظ ما أمكن على حضورها العسكري والاقتصادي في سوريا، وسوريا من جانبها تستثمر في المصلحة الروسية المشار إليها للحصول على فوائد من هذا الحضور؛ فثمة اتفاقيات عسكرية واقتصادية، تجعل من روسيا طرفاً مهيمناً على سوريا من الناحيتين العسكرية والاقتصادية. ففي عام 2017، وقّع الروس مع الأسد اتفاقيتين تنظم استخدام القواعد العسكرية الروسية لمدة 49 عاماً، مع التمديد تلقائياً لمدة 25 عاماً. ومن الناحية الاقتصادية، عقدت شركة "ستروي ترانس غاز"، وهي شركة إنشاءات هندسية روسية، اتفاقاً مع النظام السابق، لاستثمار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً. ولدى الشركة نفسها، عقد آخر مع "الشركة العامة للأسمدة" لاستثمار ثلاثة معامل أسمدة لمدة 40 عاماً قابلة للتمديد. وعليه، تطالب سوريا الجديدة، بمراجعة هذه الاتفاقيات، كما تطلب من موسكو المساهمة في تسليح الجيش السوري، وفي الإعمار، كما في مجالات اقتصادية مختلفة. لكن السؤال يُطرح: كيف تسلّح روسيا التي كانت عدوة الثورة من قبل، جيش الثورة من بعد؟ والجواب يفتح الأفق للبيئة المعقدة التي يعمل فيها الرئيس الشرع. فقد كان متوقعاً، وما زال، التعاون العسكري والأمني مع تركيا، لكن إسرائيل تتربّص في الجنوب. وحتى لو كانت العلاقات السورية الأميركية على مسار التحسّن والتطوّر، لكنها لن تصل إلى درجة الدعم العسكري للتشكيلات الجديدة. والأقرب إلى التحقق حالياً، هو التزود مجدداً بالسلاح الروسي الذي هو عماد الجيش السوري على مدى عقود، وهو يشكّل حاجة ملحّة في المدى المنظور.
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط