
الأربعاء 15 تشرين الأول 2025 - 0:08
كتبت الكاتبة الإسرائيلية دفنه ميئور مقالة في صحيفة "هآرتس" تحت عنوان "نتنياهو أضاع الفُرصة التي كانت تنتظره في غزة". جاء فيها:
يوم الاثنين الفائت حمل معه فرحاً لا يوصف، مع عودة الأسرى الأحياء إلى إسرائيل. وإلى جانب عودتهم المباركة، فقد جلب هذا اليوم أحداثاً وتطورات تكاد تكون غير معقولة إذ دعت مصر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي خرج لتدمير غزة بعد "مذبحة" 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلى قمة سلام مع ممثلين عن الفلسطينيين ودول عربية، كما أعلن رئيس إندونيسيا، الدولة المسلمة التي قاطعت منتخب إسرائيل مؤخراً، أنه سيزور إسرائيل، لكن كما هو الحال في عالم مضطرب ومجنون، فإنه بين بداية كتابة هذا المقال ونهايته، انقلبت الأمور مجدداً؛ إذ ألغى نتنياهو مشاركته، وأوقف رئيس إندونيسيا رحلته إلى إسرائيل.
لقد جرى إعلان الاتفاق لإعادة الأسرى، ووقْف الحرب، وبقية النقاط بين إسرائيل و"حماس"، تحت ضغط رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. وكان من المقرَر أن تبدأ القمة التي ستتناول هذا الاتفاق في ظهيرة عيد العرش (سوكوت)، كعرض للقوة الدولية الداعمة للهيئة التي يُفترَض أن تحكم غزة بعد وقْف الحرب برئاسة طوني بلير، وكان من المتوقَع أن يشارك فيها 20 رئيس دولة، بينهم رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، بالإضافة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن)، وممثلين عن السعودية ودول عربية أُخرى، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وكان من المقرَر في القمة إعلان اجتماع لاحق تُتخذ فيه قرارات عملية.
وحقيقة أن نتنياهو لم يُدعَ إلى شرم الشيخ منذ البداية يجب أن تثير قلقاً عميقاً حتى لدى أشد معارضيه؛ فإسرائيل ليست مجرد طرف ثانوي في الاتفاق، إنما هي إحدى الجهتين الأساسيتين فيه، أي هي طرف مباشر في الصراع. وبصرف النظر عن هوية نتنياهو وفَشَلِهِ المستمر في نظر كثير من مواطنيه، فإن رئيس دولة إسرائيل يجب أن يكون حاضراً في القمة، لكنَّ غيابه يدل على مشكلات إسرائيل من الداخل، كونها أسيرةً في يد نتنياهو والأقلية المتطرفة في حكومته، ومن الخارج مع تحوُّلها إلى دولة منبوذة.
وبعد وقت قصير من هبوط ترامب في إسرائيل هذا الصباح، في مشهد استثنائي من زيارة رسمية بإشعار قصير كهذا، أُفرج عن آخِر الأسرى الأحياء، وسُلِّموا إلى إسرائيل، وانهمرت دموع الفرح بلا توقف. لكن ترامب لم يتوقف عند هذا الإنجاز؛ فقد اتصل بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وحصل لنتنياهو على دعوة إلى القمة، ولم تمضِ ساعة حتى عاد نتنياهو إلى عناده، وأعلن أنه لن يسافر إلى مصر بسبب قدسية العيد، أي أنه قال "نعم" لترامب، ثم قال "لا" من أجل إرضاء قاعدته السياسية، وحتى الآن، لم يعلّق ترامب على هذا الانقلاب، لكن سيكون من المثير سماع ما سيقوله.
وبحسب الحزم الذي أظهره ترامب في الأسبوعين الأخيرين، يبدو أنه لن يسمح لنتنياهو بإفشال خطته، فهو يسعى لما هو أكثر كثيراً من ميدالية ذهبية من لجنة جائزة نوبل للسلام؛ فالبنية الجيوسياسية في الشرق الأوسط والعالم تتغير، وقد بدأت التحولات قبل أن يحلم ترامب بالرئاسة: إمارات النفط في الخليج بدأت تستثمر أموالها حول العالم، وبَنَتْ لنفسها أدوات هائلة للتأثير بفضل أموال النفط، والصين واقتصادات مجموعة "بريكس" تُظهر فعلاً الاتجاه المناقض للنظام العالمي الأميركي، وفي أنحاء العالم الغني هناك يقظة متنامية ضد النظام القائم المنقسم والإقصائي والمتحيّز الذي صعد تحت لافتة "الرأسمالية" و"الليبرالية الاقتصادية" اللتين انحرفتا كثيراً عن معانيهما الأصلية.
وإن ترامب يُسرّع هذا التغيير في النظام العالمي بفضل شخصيته المتطرفة والمتقلبة، واستعداده لكسر القواعد والقوانين، وبفضل اندفاعه الهائل - على الرغم من سنّه - نحو القوة والمال والمجد. وفي الشرق الأوسط، من الخليج إلى غزة، وجد ترامب تربة خصبة لكل ذلك، ولن يكون من السذاجة اعتقاد أن وراء خطوات إيجابية، كوقف الحرب المروعة في غزة وعودة الأسرى، هناك نيّات أُخرى أيضاً؛ ففي الخليج، ينتظر ترامب والمقرَّبون منه وحلفاؤه - وكذلك دول في أوروبا وآسيا - منجم ذهب من الصفقات والفرص.
فهناك عقود عقارات ضخمة، وصفقات أسلحة، ومناقصات في مجالات الرقائق والذكاء الاصطناعي، كلها معروضة للبيع من أجل الأرباح النهائية. وهذه الجائزة، التي تُقدَّر بمئات المليارات من الدولارات، إلى جانب مكافآت، كطائرة خاصة، كانت بين العوامل الدافعة إلى فرْض وقْف الحرب على نتنياهو، فترامب أقل اهتماماً بالمصالح السياسية العليا للولايات المتحدة والدبلوماسية على طريقة السبعينيات، وأكثر اهتماماً بالمنتجعات والأبراج، وبمليارات صناديق الاستثمار الحكومية.
الجميع يريد حصة
هناك دول أُخرى، كتركيا بقيادة أردوغان، والعديد من الدول الأوروبية، يمكن أن تتحرك بدافع الرغبة في النفوذ الدولي أو الخوف من تهديد الصين وروسيا، لكنها هي الأُخرى تنتظرها مكافآت إذا شاركت في لعبة ترامب، وإحدى هذه المكافآت تقع في الجزء الغربي من الشرق الأوسط؛ في قطاع غزة. فمع أن إعادة إعمار هذه المنطقة يبدو بعيداً ومعقَداً جداً، لكنها يمكن أن تكون كنزاً مغرياً للشركات الأميركية والأوروبية وحتى الإسرائيلية على الرغم من المخاطر الكبيرة. وربما تطمع الصين، المتخصصة في البناء والبنية التحتية، في جزء من هذه الكعكة، لكن الأميركيين سيفضّلون إبقاءها خارج اللعبة.
وقد قدّر البنك الدولي أن إعادة إعمار غزة ستكلّف 80 مليار دولار، مقارنةً بتقديره العام الماضي البالغ 53 ملياراً، وهذه الأرقام تقريبية جداً، وتكاد تكون تخميناً، لكنْ إذا أُعيدَ إعمار غزة فعلاً، فالتكلفة ستكون أعلى كثيراً. وقد عرضت إسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية بقيادة مصر خططاً لإعادة الإعمار، بينما أبدت دول عديدة، منها أوروبية، رغبتها في المساهمة في المساعدة.
لكن لإعادة إعمار غزة، لا بد أولاً من إطار سياسي وعسكري وإداري مستقر، وهذا هو الخطر الأول الذي يمكن أن يُفشل أي محاولة لتحقيق أرباح من مشاريع البناء والبنية التحتية. فيمكن ألاّ تبدأ خطة الإعمار أصلاً، إذ إن خطة ترامب لا تزال فقيرة جداً من جهة التفاصيل في هذه المرحلة، فلا يُعرف مَن سيُشرف على الأمن، وأي قوات ستتولى حمايته في غزة، ومَن سيسيطر فعلياً، وما دور "حماس" التي استعادت فعلاً أراضي وبدأت في ترهيب معارضيها في القطاع.
لكن يمكن تمييز النيات وراء هذا الدفع نحو التسوية عبر خطة إدارة ترامب التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" لإعمار غزة ودمْجها في "الممر الاقتصادي الهندي - الشرق الأوسط - أوروبا". إن جوهر الرؤية الأميركية هو "الأرباح لأميركا" عبر منطقة اقتصادية خاصة تشمل غزة والعريش وسديروت، وفيها مشاريع عملاقة، منها الطريق السريع؛ خطة MBS محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، وسكك حديد وأنابيب تربط بين دول الاتفاقيات الإبراهيمية، ومنتجعات لترامب على الشاطئ وفي جزر اصطناعية، ومنطقة صناعية للسيارات الكهربائية.
وفي هذه المرحلة من العلاقات الإسرائيلية - الغزية، ومن تصاعُد الانقسام الداخلي في إسرائيل، تبدو هذه الخطط أشبه بهذيان كان ليُحرج حتى شمعون بيرس. وإلى هذا الهذيان تُضاف حقيقة أن نتنياهو فوّت فرصة كبرى برفضه الدعوة المصرية، فلو سافر إلى شرم الشيخ، لربما غيّر مسار تاريخ إسرائيل وتاريخه الشخصي.
لكن الأحداث ستستمر رغماً عنه، وربما تواصل أرض غزة المدمَّرة إنجاب العنف والحروب بدلاً من تحقيق طموحات الثراء. ومع ذلك، فإن هذه البقعة من الأرض وسكانها يشكّلون مفتاحاً لصفقة أكبر كثيراً يُحضّرها ترامب، وإسرائيل ستُساق إليها سوقاً كمن أُجبر على ذلك.
*نقلاً عن مجلة الدراسات الفلسطينية
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط