مجلة تكوين


تطبيقات الاستحسان في الفقه الإسلامي

الأحد 30 آذار 2025 - 16:29

كتب (فاروق عيتاني)

مقدمة

اقتصرت تطبيقات الاستحسان في هذا البحث على الفقه الحنفي، لأن الحنفية عُرفوا بالاستحسان أكثر من غيرهم. كما حصرتُها بكتاب الهداية للمرغياني (-593هـ/1197م) كونه العمدة في الفقه الحنفي. وجديد البحث أنه يضمّ فهرساً مستقلاً لمسائل الاستحسان التي وردت في كتاب الهداية مع الإحالة إلى مكانها، وذكر نوعه أو بيان اختلاف أئمة المذهب الحنفي فيما بينهم بالقول به في مسألة ما، أو إيثار الرجوع إلى القياس فيها على الاستحسان. وتوصّلتُ إلى أنّ كتب الفقه هي المصدر الأهم في التعرّف على أدقّ تفاصيل المجتمع الإسلامي. إنها أدقّ وأوسع من كتب الأدب أو المسامرات. لذا، فإن أيّ كاتب معاصر للتراث لا يعتمد كتب الفقه من ضمن مصادره، ستكون كتابته قاصرة عاجزة عن إدراك التراث. وإنّ جهود الفقهاء في بيان النصوص وفهمها واستنباط الأحكام أو العدول بأحكامهم إدراكاً منهم للواقع المَعيش، ينفي عنهم الغرق بالرسوم والشكليات كما اتهمهم الصوفية، أو التزمّت الذي اتهمهم به أصحاب دراسات التراث والحداثة حالياً.

وإنّ الرؤية التي حكمت هذا البحث، هو طلب حقيقة الاستحسان، وفهم مدلوله وأبعاده. والمنهج المطبّق هو الوصول إلى هذه الحقيقة من خلال تطبيقات الاستحسان، ومن خلال الكلام النظري عنه في كتب الأصول التي تباين تحديدها للاستحسان بتغيّر الأزمان لإقفال ثغرة لُحظت في هذا الحدّ أو تصويب توجيه في غيره.

وتمثّلت خطة البحث في ثلاثة مطالب:

1- تعريف الاستحسان.

2- موقف العلماء منه، المذاهب، والأدلة، والمناقشات، والترجيح.

3- أنواع الاستحسان وتطبيقاته.

المطلب الأول: تعريف الاستحسان  

الاستحسان لغة كما ورد في لسان العرب من مادة حسن. الحُسن ضدّ القبح، ونقيضه. ويستحسن الشيء أي يعدّه حسناً. وفي تاج العروس للزبيدي (-1205هـ/1790م): استحسنه، عدّه حسناً، ومنه قولهم: صرف هذا استحسان ومنعه قبيح.

وفي الاصطلاح: قال الجصّاص (-370هـ/981م) في كتابه الفصول في الأصول: لفظ الاستحسان يكتنفه معنيان، أحدهما استعمال الاجتهاد وغلبة الرأي في إثبات المقادير الموكولة إلى اجتهادنا وآرائنا...فيسمي أصحابنا – الحنفية – هذا الضرب من الاجتهاد استحساناً، وليس في هذا المعنى خلاف بين الفقهاء. وأما المعنى الذي قسمنا عليه الكلام بدءاً من ضربي الاستحسان، فهو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون فرع يتجاذبه أصلان، يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه بأحدهما دون الآخر لدلالة توجيه، فسمّوا ذلك استحساناً. وأما الوجه الثاني منهما، فهو تخصيص الحكم مع وجود العلة، وفيه خلاف بين الفقهاء.

ويلخّص محمد مصطفى شلبي (-1997م) في كتابه أصول الفقه الإسلامي، التعريفات المختلفة بالقول: "ومن يستعرض هذه التعريفات للاستحسان، يظهر له أنه إما دليل من الأدلة في مقابل قياس جليّ، وإما ترك القياس إلى دليل آخر أقوى منه، أو عدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه يقتضي ذلك، ويكون الدليل المقتضي العدول عنه أو الترك، هو وجه الاستحسان".

وباستقراء مواضع الاستحسان في كتاب الهداية للمرغياني، اتضح أنّ المسائل الاستحسانية في الكتاب لا تتعدّى ثمانية في المئة من جملة المسائل الواردة، وأنّ جلّها عدول عن القياس إلى خبر الآحاد، أو الإتيان بعلة قياسية معقولة المعنى أو عدول عن حكم نص إلى نص آخر. كما تبيّن أّن أئمة الحنفية مختلفون في بعض المسائل الاستحسانية، فقد يستحسن الإمام أبو حنيفة (-150هـ/767م) مسألة ما ولا يستحسنها تلميذاه أو أحدهما من بعده، بل يعودان إلى القياس.

لذلك، فالاستحسان ليس مصدراً من مصادر التشريع، لا أصلية ولا تبعية، بل هو عدول ببعض الأحكام، غير مطّرد وغير ملزم، لدواعٍ محصورة، يعضّدها دليل من استحضار حديث أو أثر أو إعادة تفسير عرف لغوي أو واقع قائم ذو صفة جاهلية. فالاستحسان هنا ضروري للتدرّج في إعادة تطبيق الشريعة. ومن جانب آخر، فإن اطّراد القياس يؤدي إلى عسر وحرج وغلو، ولم ينصّ عليه الشرع أصلاً، بل استنتج قياساً ضمن ظروف وإمكانيات وقدرة القائس في تحرّي العلة. وهذه القدرات كلها متغيّرة كتقدير الجهالة في البيع أو العقد أو الاستصناع، أو بيع المعدوم. وفي هذا الجانب، فإن الاستحسان ضرورة حتمية، لأنه يحفظ الأحكام ضمن مقاصد الشريعة.

المطلب الثاني: موقف العلماء من الاستحسان

أولاً، موقف الشافعي والشافعية:

قال الإمام الشافعي في الرسالة: "ولو جاز تعطيل القياس، جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان...فإذا كان هكذا...كان حلال الله وحرامه أولى أن لا يقال فيها بالتعسّف والاستحسان". ووصف الاستحسان قائلاً: "وإنما الاستحسان تلذّذ".

وأورد في كتابه الأم في (كتاب إبطال الاستحسان): "لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً إن حكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا. ولا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان إن لم يكن الاستحسان واجباً".

ثانياً، موقف ابن حزم من الاستحسان:

 من المعروف عن ابن حزم (-456هـ/1064م) تمسكه بظاهر النص من قرآن أو سنة، وتمسكه بالإجماع ورفضه القياس، فكان طبيعياً منه رفض الاستحسان. وقال: "فصحّ أن الاستحسان شهوة واتباع هوى وضلال". وأضاف: "نحن نقول لمن قال بالاستحسان: ما الفرق بين ما استحسنتَ أنت واستقبحه غيرك، وبين ما استحسنه غيرك واستقبحتَه أنت؟ وما الذي جعل إحدى السبيلين أولى بالحق من الأخرى؟ وهذا ما لا انفكاك فيه".

ثالثاً، موقف أحمد بن حنبل والحنابلة:

تضاربت آراء الأصوليين حول أنّ الإمام أحمد (-241هـ/856م) يقول بالاستحسان أم لا. ولكن ابن تيمية (-728هـ/1327م) يبيّن أن الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه حقيقي، وليس لفظياً كما ذكر عامة الأصوليين. وإنّ بعض الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان. وتعريفه أنه مخالفةُ للقياس لدليل. ونصوا على أنه مذهب الإمام أحمد. ونقلوا عنه مسائل قال فيها بالاستحسان. لكن الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به الحنفية. فهنالك خلاف منهجي بين الفريقين في هذا الباب. فالمسائل الاستحسانية التي نُقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس. والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال.

وقد بيّن ابن تيمية أن الإمام أحمد يستعمل النصوص كلها، ولا يقيس على أحد النصين قياساً يعارض النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون على أحد النصين، ثم يستثنون موضع الاستحسان إما النص وإما غيره، فينقضون العلة التي يدّعون صحتها مع تساويها في محالها.

رابعاً، موقف مالك والمالكية:

يقول الدكتور مصطفى الزرقا (-1999م): "إنما الاستحسان عند المالكية أن يُترك القياس الظاهر لأحد أمور ثلاثة: إذا عارضه عُرف غالب أي عادة شائعة أو عارضته مصلحة راجحة أو أدى إلى حرج ومشقة". ويضيف أنّ الفكرة في المذهبين الحنفي والمالكي واحدة. لكن المذهب المالكي "لتأخره عن الحنفي في التاريخ، تركّزت فيه الصياغة الفنية الفقهية لقاعدة المصالح المرسلة وشرائطها، فبرزت فيه واشتُهرت بها"، وأنّ الفرق "إنما هو اختلاف في الاصطلاح لا خلاف في الاستصلاح".

المطلب الثالث: أنواع الاستحسان وتطبيقاته عند الحنفية

يقسم شلبي استحسان الحنفية إلى ثمانية أنواع: الاستحسان بالنص، وبالإجماع، وبالضرورة، وبالاستناد إلى العُرف، وبالقياس الخفيّ، والاستحسان احتياطاً مراعاة للخلاف، وترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته، والاستحسان بالمصلحة. ويقسم الزرقا الاستحسان إلى نوعين: استحسان القياس، واستحسان الضرورة. ويرى الزرقا في النوع الثاني طريقاً للفقهاء إلى الأحكام المصلحية التي تتفق مع المنطق الفقهي ومقاصد الشريعة. وعليه، يردّ الزرقا استحسان النص، واستحسان الإجماع.

وثمة ملاحظات لا بدّ من تسجيلها قبل عرض أنواع الاستحسان:

1- جلّ المسائل الاستحسانية كما تبيّن من استقراء كتاب الهداية وردت في مسائل المعاملات لا العبادات.

2- العديد من هذه المسائل، قد يرد عليها أكثر من دافع واحد للاستحسان كما في كتاب الشركة، جواز شركة المفاوضة؛ وهو استحسان خلاف القياس، للحديث، ولتعامل الناس بها بلا نكير، ولكون الجهالة فيها يسيرة.

3- بعض المسائل الاستحسانية، تُستحسن احتياطاً، ويُطرح السؤال لماذا جوّز أبو حنيفة بيع العنب لمن يعلم أنه يتخذه خمراً. ولم يستحسن منعه احتياطاً؟ وكذلك في تجويز نقل الخمر على خلاف الحديث. إو إيجار الدكان لمن يستأجره لبيع الخمر؟ أليس في ذلك معاونة على معصية؟ والحنفية أنفسهم استحسنوا إيقاع الحدّ على جميع من دخل الحِرْز للمعاونة في السرقة. والقياس أن لا يُحدّ إلا على المُخرِج للمسروق من الحرز.

4- استحسانات العُرف اللغوي، تأتي ضمن عدم أهمية اللفظ في الدلالة على النية عند الحنفية.

5- بعض المسائل الاستحسانية تمضي قياساً واستحساناً معاً في آن واحد. فهي هنا بمنزلة الرخصة الشرعية.

أنواع الاستحسان:

بالإمكان تقسيم تطبيقات الاستحسان إلى أربعة أنواع: استحسان النص أو الأثر، واستحسان الإجماع، واستحسان القياس. وأخيراً، استحسان الضرورة.

خاتمة

امتاز هذا البحث بعدة مميّزات؛ فهو الوحيد في حدود تفتيشي - وهو شبه كامل، الذي يحتوي على فهرسة لمسائل الاستحسان لأحد كتب الفقه (الهداية)، وهو العمدة في الفقه الحنفي. كما أنه أكثر البحوث إيراداً لتعاريف الاستحسان، ومن مصادرها الأصلية مباشرة. إضافة إلى ذلك، استطاع حصر المسائل الاستحسانية في أربعة أنواع تبعاً لنوع الدافع، وذلك عن طريق توسيع مفهوم الاستحسان للضرورة ليشمل جميع الأنواع بخلاف النص، والإجماع، والقياس. وقد يكون أيضاً أول بحث استفاد من رسالة ابن تيمية (قاعدة في الاستحسان)، ليخرج من اللغط حول موقف الحنابلة من الاستحسان.

إنّ كاتب البحث، ولو ظهر في البداية متحمّساً للاستحسان، إلا أنه ومع الاطّلاع على كلام أصوليّ الشوافع بالموضوع، ومع طرح التساؤلات حول معقولية أو تفسير المسائل الاستحسانية التي وردت في الهداية، أصبح أكثر حذراً من المسائل الاستحسانية لسهولة دخول البدع فيها، كما كان الشاطبي (-790هـ/1388م) يقول. وكان يتوقع كاتب البحث، أن يستحسن الحنفية لعب الشطرنج مثلاً، إلا أنه فوجئ بأنهم تمسّكوا بالقياس. وربما كان الحنفية يرغبون في مخالفة الإمام الشافعي الذي استحسن لعب الشطرنج لما فيه من "شحذ الأذهان"، وتنشيط الأفهام.

يُنشر النصّ الكامل في العدد المقبل من مجلة "تكوين"



جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط

أخبار ذات صلة