
السبت 17 أيار 2025 - 0:12
كتب (د. علي زيعور)
السيرة الذاتية التي وضعها ابن خلدون (732-808هـ/1332-1406م) في فترة عزلة، وبعد إحباطٍ وأهوال، وآكام من الالتواءات والأزمات، شاشة تقرأ عليها تحليله لذاته، وأحكامه على سلوكاته، ورحلته في دهاليز شخصيته وتلافيفها، ومقاصده الواعية أو العِبَر التي أراد إبلاغها وتوصيلها للجماعة. هذا كلام يؤوب إلى الأُعمومات؛ وإلى الشائع الذي يُلَصَقُ أو يُلقى على كلّ صاحب سيرة ذاتية. يُضاف أيضًا أنّ ابن خلدون، كما هي الحال في ذلك القبيل من الكتابة عن الذات، قام بعملٍ صعب وغير بريء: فالصعوبة تتأتّى من الحواجز التي تقف في وجه الأنا عندما تحلّل أعماق الأنا؛ إِذ تظهر حواجز لاواعية، وتتحرّك النرجسية، وتمرّ غير واضحةٍ صُوَر وتمثّلاتٌ أو تُنسى وتبقى مطمورة، وتَعمل بقوةٍ أواليات الدفاع عن الذات أي قَسْريات التطهّر الذاتي حيث غسْل الأخطاء ومحو الفَشَلات. أما اللابراءةُ، فهي هي تلك الأواليات غير المباشرة التي تعمل كي تُبلسِم وتُطهّر، تُحْلي وتُخلي، تحذُف وتُثبِت.
العنوان الذي يعطيه ابن خلدون لسيرته الذاتية، أراده أن يكون خبرًا عن واقعة تاريخية: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا؛ ذاك هو العنوان الذي هو، كما يبدو، معرَّضٌ لأن يوقعنا في التباس: فهل التعريفُ هو فقط بابن خلدون؛ أم بابن خلدون وبرحلته شرقًا وغربًا؟ هل رحلته قسمٌ آخر لقسمٍ أوّل هو التعريف بابن خلدون؟ لا يُلام من يقرأ العنوان على النحو التالي: التعريف بابن خلدون ورحلتِه [بكسر التاء]...؛ ولا ذلك الذي يقرأ العنوان: التعريف بابن خلدون ورحلتُه [بضمّ التاء]. ولم يشكِّل المحقّق القدير للنصّ، محمد بن تاويت الطنجي، عندما أعدّ الكتاب للنشر؛ على الرغم من أنّ التشكيل، وهو أمر مرغوب جدًا وضرورة اقتصادية [في الوقت] لتوضيح الفكر العربي ولتسهيل لغتنا، كان شديد الحضور جمّ النفع.
يثير العنوان، بَعْدُ أيضًا، أسئلة. هذا، لا سيما إذا طرحنا سيرة ابن خلدون الذاتية على بساطٍ [أرضية، إهاب، قرائنية) واسع مُشَكَّلٍ من مكتوبات صوفييِّنا وحكمائنا عمومًا في ذلك المجال (علي زيعور، 1983)؛ وسنعود إلى ذلك، وإلى معنى كلمة "رحلة" التي هي، ربما، اسم كتابٍ، بحسب ما يقوله ابن خلدون نفسه، للقاضي ابن العربي.
تَسرّبَ الشكّ، منذ القديم وعند العديدين، إلى الصورة التي يرسمها ابن خلدون عن ذاته. فما اشتهر به لم يكن، على العموم، نبيلًا: خلوّ من الوفاء، انغماس في مؤامرات، خيانات متلاحقة، فشل وإحباط، إخفاقات، لحاق بالمناصب العليا حتى بعد نكبته الكبرى وفي أخريات عمره، فساد وانحراف سلوكي...
إنه رَجُل سياسة؛ هو سياسي بالمعنى الأسوأ والأشهر للكلمة في التاريخ العربي: اهتمام بالنجاح فقط، المحافظة على الموقع أو الوظيفة بِغضّ النظر عن الكثير مما يرتدّ إلى المُثُل والقيم وما إلى ذلك من موضوعاتٍ لا توفّر مباشرةً المال أو المنصب، أو لا تقود إلى السلطة والجاه.
من هنا قفز بعض الدارسين الجُدُد إلى استخلاصٍ تقريظي مشبَعٍ بالحماس والافتخار مفاده أنّ ابن خلدون ذو منهج واقعي، وسلوكات واقعانية (ذات نزعة واقعية)، وشخصية تنزع للتحرّك بالعمل والتعاطي مع الأحداث بلا أوهامٍ، أو بلا سطحية وطيب قلب، بلا سذاجةٍ ومثاليات لفظية ووعظية.
قراءة ما كتبه ابن خلدون عن نفسه؛ هل برّر وغَسَل؟ لم يحاكم، ولم يخجل، حيال كونه وزيرًا لسلطان ثم مشايعًا لقاتل ذلك السلطان؛ ولا حيال مشايعة أبي حمّو ضد أبي العباس، ثم مشايعة عبد العزيز ضد أبي حمّو؛ ثم الاعتذار عن خدمة أبي حمّو؛ ثم العودة إلى طاعة السلطان أبي العباس، ثم ...، ثم... .
لعلّنا لا نقسو هنا على ابن خلدون، ولا على الإنسان في كتابته عن الأنا والحميمي فيها أو المطمور. في قولنا إنه مَرّ سريعًا حيث كان الأجدى أن يتوسّع؛ فلو أنه أوضح أو أظهر، في حالات عديدة، لكان أسهل علينا اليوم فهْمُ حوادث تاريخية كبيرة، بل وحتى التقاط أعمق للكوامن والانجراحات في شخصية ابن خلدون عينها. وفي مواقف كثيرة. وحيث كان ابن خلدون يستطيع أن يكون صريحًا، أغمضت السيرة الذاتية الطَّرْفَ؛ بقيت حذرةً محتاطة، ولم يَقْدَر صاحبها إلا أن يكون كما كان طوال عمره: متحفِّظًا، مُراقبًا بشدة لذاته وقامعًا لها، مُظهرًا إياها على هيأة مُجمَّلةٍ محسَّنة، وقاصدًا نفع الجماعة وتقديمَ العِبْرة.
يُنشر النصّ الكامل في العدد المقبل من مجلة "تكوين"
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط