منوعات


الصيام التحاقٌ بعالم كونيّ عابر

الأربعاء 12 آذار 2025 - 0:05

كتب (الشيخ د. باسم عيتاني)

في رحلتك الإيمانية، أنت تبحث باستمرار عن معاني الطهارة والسمو الروحي، ولكن هل فكرت يومًا في نموذج مثالي أسمى من ذلك؟ دعونا نتأمل سويًا في نموذج كوني عابر للعوالم، نموذج نوراني، يساعدنا على الاقتداء به. ربما يكون هذا النموذج هو عالم الملائكة، المخلوقات التي خلقها الله من نور، والتي لا تعرف الخطأ أو المعصية، ولا تأكل ولا تشرب ولا تتناسل. إنهم يدورون في فلك الطاعة المطلقة لله كما قال تعالى: {عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26-27]. وكلما تعمقنا في مفهوم الإيمان بالملائكة، نجد أنفسنا أمام مشهد من الجمال الروحي يتجلى فيه عظمة الخالق، وتترسخ في روحنا معاني الإيمان بالغيب.

قد تتساءل: هل يمكنني الوصول إلى هذا المستوى؟ أين أنا من الملائكة؟ سؤال وجيه، رغم أن الملائكة مخلوقات فريدة في عالم الغيب، ويخلق الله ما لا تعلمه، إلا أن هناك علاقة متجذرة بين الإنسان والملائكة، تبدأ منذ خلق آدم - عليه السلام - عندما أمر الله الملائكة بالسجود له تكريمًا لهذا المخلوق الذي سيحمل في قلبه مشاعر حب الله وطاعته. كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ۞ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ۞ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:71-73].

منذ ذلك الحين، أصبح في وعي المؤمن صورة لهذا التكريم، ليبقى شاهدًا على جمال العلاقة بين الإنسان والملائكة. إنها علاقة مقدسة، تتجلى في تمثلات عديدة، مثل السيدة مريم العذراء، تلك المرأة العفيفة الطاهرة، التي تمثل لها جبرائيل في صورة رجل معتدل الخلق، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. وكان الأمر العظيم بولادة المسيح الذي أضاء الظلمات بطلعته، حيث خرق الله به القوانين العادية بنفخة أوجدت حياة.

أرأيت كيف أن الله يحبك؟ لقد منحك فرصةً لتذوق هذا الصفاء الروحي الذي كنت تبحث عنه، فرصةً تعيشها لا كفكرة مجردة، بل كتجربة يومية خلال شهر كامل. فحين تمسك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فأنت تتحرر من قيود الجسد. ولأجل هذا المعنى العظيم، تدرك ما جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). فترتقي بروحك لتلتحق بموكب الملائكة النورانية. لكن هناك فرقًا جوهريًا بينك وبينهم: أنت تختار ذلك بمجاهدةٍ ومحبة، بينما هم فطرهم الله على الطاعة المطلقة دون خيار. وهنا يتجلّى تكريم الله لبني آدم، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضيلًا}       [الإسراء:70]،  فجعلك قادرًا على تجاوز نوازعك بوعيٍ وإرادة، ليكون صيامك ارتقاءً، لا مجرد امتناع.

ولنتعمق قليلاً في هذا التشابه، فإن الملائكة منقطعة عن كل شيء إلا عن الله، ولا تنشغل إلا بما يأمرها ربها، وتنفذ كل ما يريده دون أي تردد أو تمرد. فهل لاحظت أن امتناعهم هو عن كل شيء سوى الله تعالى؟ صيامك يبدأ بالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، ليمتد بعد ذلك إلى الشعور الحقيقي بالابتعاد عن المعاصي والإسراع في تنفيذ أوامر الله بكل طواعية، لأنك تدربت على هذا المعنى شهرًا كاملًا، فيتوسع امتناعك ليشمل كل شيء سوى الله تعالى. فهل تذوقت معنى الآية العظيمة: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريـم: 6]؟ هذا هو صيامك الذي يستدعيك إلى التوازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين كل ما غاب عنك وبين ما تشهده؛ فالصيام يحملك لترى مشهده الظاهر، وما إن يتحقق ذلك حتى يأخذك إلى مقام غيبي لتلتحق بعالم غيبي عابر، وأثره في حياتك العملية يحقق تغيراً جذرياً.



جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط

أخبار ذات صلة