الجمعه 30 آب 2024 - 0:00
خاص (أيوب)
غاب عن دنيانا الرئيس سليم الحص بعد سنوات طويلة من الغياب السياسي. وكعادة اللبنانيين في كلّ غياب مفاجئ أو متوقّع لشخصية عامة، تتهاطل الصفات والتبجيلات على الفقيد، فنفتقد القدرة أو الجرأة على محاكمة أعماله وسيرته دون تنميق أو تزويق. وتمرّ السنون والأجيال، دون أن نتعلّم شيئاً من التاريخ. وليست حالة الراحل سليم الحص سوى مثال على ذلك، وهو الذي تسلّم منصب رئيس الحكومة في أسوأ الظروف وأعقدها، خمس مرات. عقب حرب السنتين مرتين، في عهد الرئيس إلياس سركيس (1976-1982)؛ بين عامي 1976 و1979، وبين عامي 1979 و1980، وعانى من سطوة الميليشيات في كلّ المناطق. وتولّى رئاسة الحكومة بالوكالة عقب اغتيال الرئيس رشيد كرامي عام 1987، في عهد الرئيس أمين الجميّل (1982-1988). وعندما كلّف الجميّل قائد الجيش ميشال عون تشكيل حكومة انتقالية، في الساعات الأخيرة لولايته، رفض الحصّ الاعتراف بالحكومة العسكرية لانتهاكها الأعراف الدستورية، لا سيما أنّ الوزراء العسكريين المسلمين استقالوا، فأصبحت حكومة عرجاء وإن كانت دستورية. وظل الحص رئيساً للحكومة في المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة عون، فقيل عنها إنها الحكومة الشرعية، وإلى حين إقرار اتفاق الطائف، وانتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية عام 1989. وعاد ليكون رئيساً للحكومة مؤقتاً بعد اغتيال معوض، ولحين انتخاب إلياس الهراوي بعد يومين. ولم يعد إلى رئاسة الحكومة إلا مع انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية عام 1998، فتميّزت السنتان بأنهما كانتا عهد تطهير الإدارة الرسمية من المديرين العامين الموالين للرئيس رفيق الحريري، فضلاً عن عدد من موظفي الدولة بتهمة الفساد. لكن الحملة كانت ناقصة وقاصرة، وكانت مسيّسة بالاتفاق، وتدعمها سوريا وحلفاؤها في لبنان. وكان توقيت انتخاب لحود رئيساً، وتكليف الحص برئاسة الحكومة، يتوافق مع التحضيرات الجارية في دمشق لتوريث السلطة من حافظ الأسد إلى نجله بشار. وبما أنّ حقبة الأسد الأب كانت على وشك الأفول، فكان من طبيعة المرحلة القادمة إبعاد رفيق الحريري من الواجهة في لبنان، لما كان يتحلّى به من علاقات قوية مع كبار رجالات الدولة في سوريا، وهو ما كان يُظنّ أنه يشكّل خطراً على الرئيس الشاب آنذاك، الطريّ العود، وعديم الخبرة.
في هذه الظروف السياسية المشبوهة، انطلقت حملة التطهير التي حملت اسم حملة الإصلاح ومكافحة الفساد. وكان "ضمير لبنان" الأداة الأمضى لتحقيق هذه الاستراتيجية، دون اعتبار أو تمييز بين فاسد حقيقي يستحقّ التحقيق معه ومحاكمته، وبين موظف كفء محسوب سياسياً على رفيق الحريري، ينبغي اقتلاعه من الإدارة العامة، لتشذيب أذرع الحريري، وقصقصة أجنحته كما يُقال.
كان الرئيس الحص رأس حربة في معارضة سياسات الحريري الأب، على أسس اقتصادية بحتة عندما كان نائباً عن بيروت في المجلس النيابي (1992-1996)، لكنه خسر موقعه في البرلمان، في أول انتخابات عامة يخوضها رفيق الحريري، فتشكّلت منذ ذلك عداوة ذات طابع شخصي بين الرجلين، وبخاصة عندما نجح الحريري في اختراق الماكينة الانتخابية للحصّ فانهارت منذ الساعات الأولى. وعندما استعان به الرئيس لحود رئيساً للحكومة الأولى، كان يعرف من اختار ولماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وطوال السنتين اللتين حكم فيهما، كان الحصّ يبرّر فشله في إرساء سياسات بديلة عن التي اعتمدها الحريري للنهوض العمراني والاقتصادي منذ عام 1992، بالقول: "إنها التركة الثقيلة"، و"إنه المال السياسي"، و"هي الحملة الإعلامية التي تشوّه إنجازات الحكومة". أما الحكم على المرحلة برمّتها، فلا يكفيه شهادة الحصّ فيها، وهو الذي ألّف الكتب عن كلّ حقبة سياسية شهدها سواء كان في الحكم أو المعارضة. لكن ماذا عن ضحايا التطهير، الذين شُوّهت سِيَرهم لدى الرأي العام، ولم ينالوا تعويضاً معنوياً عن الأخطاء المرتكبة بحقّهم، وبعضهم توفي كَمَداً كمدير عام وزارة العدل الدكتور وجيه خاطر؟
وهل يعني هذا في الوقت نفسه أنّ شهادة عبد المنعم يوسف، المدير العام السابق للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، والتي نشرها تحت عنوان: "لا شماتة في الموت خصوصاً موت الرئيس سليم الحصّ"، تصلح لتقييم سيرة الحص ككلّ، ونفي صفة "ضمير لبنان" عنه؟ قد يكون يوسف محظوظاً بل ماهراً في إثبات براءته من كلّ تهم الفساد، وفي العودة أقوى مما كان إلى وزارة الاتصالات. كما استطاع الصمود أمام الوزير الصاعد جبران باسيل عندما تولّى وزارة الاتصالات في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩. وهو أمر استثنائي بخلاف المديرين الآخرين الذين طالهم التطهير، حتى إنه جمع منصبين آخرين، هما: رئيس مجلس إدارة هيئة أوجيرو، والمدير العام لها، في واقعة لا سابق لها. وفي عام 2015، قدّمت منظمة الشباب التقدمي ومفوضية العدل، إخباراً ضده، بعنوان "هدر أموال عامة في هيئة أوجيرو"، والسبب الرئيس هو "الازدواجية الوظيفية"، ومن موقعه المميّز، يعقد الصفقات من دون وجود رقيب. فهل يعني هذا أنه لا يمكنه التظلّم من سياسات الحصّ؟
إنه يعني ببساطة أنّ السياسة محكومة بمآلاتها وإنجازاتها. وفي هذا الإطار، لم يُسجّل إنجازات عملية للرئيس الحصّ؛ أتيحت له الفرصة فلم يتمكن من عكس المسار الذي ابتدأه الحريري، بل إنّ حكومته تابعت عملياً ما بدأه، وأدارت الأزمة المالية والاقتصادية بدلاً من حسمها. لا يمكن الاكتفاء بوصفه "ضمير لبنان"، باعتبار أنه نزيه وعفيف ونظيف للحكم على مسيرته السياسية. لو كان خارج الحكم طوال الوقت، وانشغل بالكتابة وحسب، لكان شان آخر. لكنه كان في الداخل في أحيان عديدة، ويتحمّل كغيره جزءاً من المسؤولية.
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط