الأحد 29 أيلول 2024 - 0:02
خاص (أيوب)
لم يكن السيّد حسن نصر الله شخصية عادية في تاريخ لبنان الحديث، ولا في تاريخ المنطقة. ففضلاً عن كونه من الزعماء البارزين، الذين حظوا بمكانة رفيعة في الوجدان الشيعي، سواء في لبنان أو خارجه، مما أهّله ليكون له موقع مميّز في العلاقة العضوية بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين الحزب الذي تأسّس إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، برعاية مباشرة من الحرس الثوري الإيراني، فإن الحزب أضحى تحت قيادته ميليشيا عابرة للحدود، وقادته الميدانيون يراكمون الخبرات القتالية في أكثر من ساحة، من خلال التدخّل المباشر أو غير المباشر في صراعات خارج الحدود، مما تسبّب له بعداوات عميقة لا تتلاءم مع طبيعة تكوينه كمقاومة لبنانية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وعليه، ربما كان الحزب من هذا المنظور من أقوى الميليشيات غير النظامية، التي قارب تسليحها تسليح جيش نظامي في بعض القطاعات، دون أن يتحوّل إلى جيش نظامي صرف، إلا أنه يجمع بين تكتيكات حرب العصابات وهرمية الجيوش النظامية. وربما تكون هذه التجربة قد وصلت إلى نهايتها بعد ما يقارب من عام على معركة إسناد غزة، أي منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بتوجيه ضربة قاسية ومؤلمة، لهذا الجهد الممتدّ على ما يزيد من 40 عاماً، باغتيال قياداته تباعاً، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام نفسه، بقنابل خارقة للتحصينات. وسيكون لهذا الحدث ما بعده، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، ولن يكون اليوم التالي مشابهاً لما سبقه. وليس من المبكر البحث في مآلات الحدث، للآثار المترتّبة محلياً وإقليمياً، وهو يؤدي على نحوٍ طبيعي إلى إحداث فراغ كبير، في ثلاثة مستويات:
أولاً، في المستوى الحزبي، تمكّن نصر الله منذ استلام مهام الأمانة العامة من تطوير شخصيته القيادية بسرعة، وبخوضه جولات القتال المتعاقبة مع إسرائيل، وكانت حرب تموز 2006، هي الأصعب والأكثر كلفة، وتجاوزه المخاطر، إلى جانب تحدّيات داخلية أخرى، لا تقلّ إثارة للإشكاليات والحساسيات، إلى احتلاله المجال العام الشيعي، وتأثيره الممتدّ نسبياً إلى الدوائر الأخرى، وتحوّل خطاباته المبرمجة على مناسبات دينية وسياسية وحزبية، إلى منصّة مؤثرة في وجدان أنصاره، بحيث يشكّل سردية الأحداث أو يعيد تشكيلها؛ كلّ هذا جعل منه رمزاً عابراً للطوائف نسبياً، دون أن يبتعد عن كونه ممثّلاً عميقاً للرجل الشيعي العادي. فهل يستطيع أيّ قيادي من الحزب أن يملأ مكانه، في ضوء الاستنزاف السريع لقادته، في الاغتيالات المتتالية، كما أنّ ظروف التكوين ومراكمة الخبرة الشعبية، مختلفة كثيراً، ومستوى الأمان غير متوافر، لتأسيس جديد؟
ثانياً، صعد حزب الله في المشهد اللبناني تدريجياً، ليكون بعد ذلك منافساً قوياً لحركة أمل، وزعيمها نبيه بري، الذي يمتلك مواصفات القائد الشعبي والمحنّك. وبعد صدام قاسٍ بين المكوّنين الشيعيين، توصّل الفريقان إلى اجتراح معادلة متكاملة بينهما، سُميّت بالأدبيات السياسية بـ"الثنائي الشيعي"، وخاضا معاً صراعات السلطة والنفوذ مع الطوائف الأخرى، فأوصلا الشيعة إلى مكانة غير مسبوقة في النظام اللبناني. ومع غياب أحد ركني الشيعية السياسية، فكيف يمكن تلافي الخلل؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به الرئيس بري على هذا الصعيد، لشدّ الأواصر وتوجيه البوصلة، بما يُعرف عنه من خبرة ودراية؟ وما هي الإجراءات المطلوبة على هذا الصعيد؟
ثالثاً، اعتبر نتنياهو في خطاب رسمي أنّ هذا الاغتيال يغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط، مما يدلّ على أهمية الرجل بنظر أعدائه. لكنه يبيّن أيضاً مدى الفراغ الذي سيخلّفه غياب نصر الله، في المعادلات الإقليمية، في سوريا، وفي العراق واليمن وفلسطين. لقد كانت الاستراتيجية الأخيرة التي تمخّض عنها العمل خارج الحدود، ما سُمّي بـ"وحدة الساحات". وكانت معركة "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، اختباراً حقيقياً لمدى متانة هذه الوحدة، وفعاليتها، في مواجهة الآلة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية التي هي جزء عضوي من الآلة العسكرية والاستخبارية، الأميركية أولاً، ومن الآلة الغربية عامة. وبعد هذا الاختبار القاسي، الذي كشف مدى تطوّر فصائل إيران من جهة، لكنه كشف أيضاً الفجوة التكنولوجية الخطيرة، وفشل الاعتماد على سلاح الصواريخ وحده ليبني توازن الردع. وأبان حدود هذا التحالف؛ إذ لكلّ فصيل مصالحه وحساباته الوطنية المتباينة، حتى إنّ إيران نفسها كدولة لها حساباتها الخاصة، فماذا سيكون أثر هذه التجربة على محور الممانعة ككل؟
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط