خاص أيوب


تكبير لبنان أم تصغيره..أين الخطأ؟



الأربعاء 29 أيار 2024 - 0:00

خاص (أيوب)

حاول بيتر جرمانوس، مفوّض الحكومة السابق لدى المحكمة العسكرية، قبل أيام، والذي أضحى مؤخّراً من المؤثّرين في منصّة أكس، أو يطمح إلى ذلك، ترويج تأسيس نظام جديد في لبنان، هو النظام الاتحادي أو الفدرالي، علماً أنّ الفكرة بُعثت من عدة سنوات، على يد مجموعات تتفق على المبدأ، وتختلف على خرائط التقسيم وفق السكّان أو ملكية الأراضي. وباتت الأحزاب المسيحية أقرب بكثير إلى الطرح الفدرالي أو التقسيمي، لأسباب سياسية معروفة، أشدّها اعتباراً تغلّب حزب الله على بقية المكوّنات، وتمسّكه بسلاحه، وانخراطه في محور المقاومة لإسرائيل في المنطقة. لكن تغريدته ذات العلاقة والمستندة إلى خارطة متصرّفية لبنان قبل عام 1920، مليئة بالأخطاء التاريخية والقانونية والسياسية.

يقول جرمانوس إنّ إمارة لبنان آنذاك مساحتها حوالي 3500 كيلومتر مربع. وفي عام 1920، وافقت فرنسا على طلب البطريركية المارونية بتوسيع لبنان، ليضمّ طرابلس وعكار وبيروت وصيدا وجنوب لبنان والبقاع. ويتساءل: "لماذا سعت الكنيسة إلى توسيع لبنان رغم وجود أكثرية إسلامية في المناطق المذكورة؟ لا يوجد جواب واحد لهذا السؤال، بل هناك عدة عوامل دفعت إلى اتخاذ هذا القرار.منها مجاعة جبل لبنان خلال فترة 1914-1918 التي أدّت إلى موت ثلث المسيحيين جوعاً وهجرة ثلث آخر، مما جعل من الضروري ضمّ سهلي عكار والبقاع لتأمين الموارد. كما لم يكن بإمكان المسيحيين تخيّل لبنان من دون بيروت العظيمة. أما العامل الثالث، بحسب جرمانوس، فهو أكثر من نصف قرن من التقاتل الأهلي مع الدروز مما جعلهم غير واثقين بكيانية الإمارة والشراكة التاريخية المارونية-الدرزية.

ويستنتج جرمانوس أنه بسبب هذا التقاتل مع الدروز، انتقلت الشراكة التاريخية مع الدروز إلى شراكة مع السنة الذين أمّنوا في حينه الغطاء العربي للبنان. والدليل على ذلك اغتيال أحد مؤسّسي الجمهورية، رياض الصلح، على يد القوميين السوريين الذين لم يعترفوا بلبنان. وهذه الشراكة هي سبب حقد كمال جنبلاط على صيغة 1943 معتبراً إياها "خيانة" استبدلت الدروز بالسنة، وانخراطه مع اليسار القومي ضدّ ما كان يسمّيه "المارونية السياسية".

ثم يتساءل: "هل أخطأت بكركي بضمّ الأقضية الأربعة إلى الجبل؟ أيضًا، الإجابة عن هذا السؤال صعبة. لو بقي لبنان على حدود الإمارة، هل كان التوافق الدرزي-الماروني سيستمر؟ وهل كانت سوريا ستترك هذا الجبل بسلام وهي تحيط به من كلّ الجهات؟ أعتقد أنّ خيار لبنان الكبير كان في حينه خياراً صائباً".

وأخيراً، يدعو جرمانوس الكنيسة إلى تبنّي "طرح الدولة الاتحادية وتسويقه بصمت في أوروبا وأميركا. وإذا تعذّر ذلك، فالعلمنة الشاملة مع انتخاب رئيس مباشرة من الشعب". ويشدّد على عدم تمسّك الكنيسة "بالنظام المركزي التحاصصي التوافقي الطوائفي المُعطِّل الذي حوّل لبنان الى أفشل دولة في الإقليم. المشكلة لم تكن في لبنان الكبير، بل في سوريا وسيطرة العسكر عليها ومن ثم اليسار. من كان يعلم أنّ سوريا ستنهار حضارياً وثقافياً بهذا الشكل الفظيع؟".

ما هي المغالطات في هذا الطرح؟

- أولاً، الخارطة التي استعملها جرمانوس، هي لمتصرّفية لبنان، التي أُنشئت عام 1861، وكانت نتيجة تسوية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا. وكان على رأسها متصرّف مسيحي غير لبناني ومن التابعية العثمانية. فهي لم تكن إمارة لبنان، آنذاك. وحتى إمارة لبنان أيام فخر الدين المعني الثاني (توفي عام 1635)  وبشير الشهابي الثاني (توفي عام 1850)، فكانت خاضعة للدولة العثمانية، وتمرّد الأميران المذكوران على الدولة، فلقيا مصيرهما بسبب ذلك، الأول أُعدم، والثاني نُفي إلى مالطة.

- ثانياً، لماذا طلب البطريرك الماروني إلياس الحويك (توفي عام 1931) من فرنسا ضمّ المناطق ذات الأكثرية الإسلامية إلى لبنان، على الرغم من نصيحة رجل دولة ماروني متقاعد هو على الأرجح سليمان البستاني (توفي عام 1925)؟ بل كانت نصيحته نوعاً من الاستشراف الدقيق؛ إذ حسبما نقل عنه المؤرخ فؤاد إفرام البستاني في كتابه مسألة لبنان، أنه قال للحويك: "ستندم يا غبطة البطريرك في أقل من خمسين سنة"، لأن المسلمين سيصبحون أكثرية، وسيحوّلون لبنان إلى دولة إسلامية، وسيضعونه تحت وصاية دولة إسلامية كبرى. بل كان أبرز الدبلوماسيين الفرنسيين في تلك الحقبة روببر دو كيه (توفي عام 1970) من أكثر المعارضين لتوسيع لبنان للسبب عينه. المبرّر الظاهري لضمّ تلك المناطق، هو حماية المسيحيين من تكرار مأساة المجاعة. لكن السبب أعمق من ذلك؛ إذ كانوا يريدون دولة قابلة للحياة، والجبل وحده ليس كذلك. كانوا يحتاجون، إلى سهلي البقاع وعكار، وكذلك إلى الجنوب بساحله وسهوله وهضابه، وإلى مينائي بيروت وطرابلس. والأكثر حساسية، أنهم كانوا يريدون السكّان المسلمين ليكونوا فلّاحين وعمّالاً وموظفين في المستويات الإدارية الدنيا، فيما تنحصر المناصب القيادية بيد الموارنة وسائر المسيحيين.

- ثالثاً، بالنسبة للتقاتل الأهلي الدرزي الماروني والذي انتهى بمذابح عام 1860، وأسقط الشراكة المارونية الدرزية، فإن سببه المباشر هو تحريض الإكليروس الماروني للأمير بشير الشهابي على شريكه في الجبل الزعيم الدرزي بشير جنبلاط، أمير الشوف، كما ينقل الدكتور مبخائيل مشاقة (توفي عام 1888)، في كتابه مشاهد العيان بحوادث سوريا ولبنان. فبشير جنبلاط هو من رسّخ إمارة بشير الشهابي في الجبل، ثم انقلب بشير الشهابي عليه، وسلّمه إلى والي عكا الذي أعدمه عام 1825. تبع ذلك، حملة قمع وإقصاء طالت دروز جبل لبنان، الذين هاجر قسم كبير منهم إلى حوران. وكانت من ممهّدات التقاتل الدرزي الماروني في السنوات اللاحقة (1840 و1860). أما القول بأن الموارنة قرّروا تأسيس شراكة مارونية سنية، بدل الشراكة مع الدروز، فهو ادّعاء عريض لا دليل عليه؛ ومن المهم التذكير أنّ ضمّ طرابلس إلى لبنان كان عقدة الكيان الجديد، فهم كانوا يريدون ميناء المدينة لا سكّانها. والسُنّة لم يكونوا يريدون التحوّل إلى مواطنين درجة ثانية في لبنان الجديد. والتحوّل الأخير الذي طرأ قبيل الاستقلال عام 1943، بالتفاهم بين بشارة الخوري ورياض الصلح، لم يصبح شراكة حقيقية، فالموارنة تمسّكوا بامتيازاتهم، ولهذا ما زالوا ينتقدون اتفاق الطائف لعام 1989 حتى اللحظة.

- رابعاً، يعيد بيتر جرمانوس تكرار خطأ تأسيس لبنان الكبير، من خلال دعوته الكنيسة المارونية إلى العمل بصمت لدى القوى العظمى من أجل إنشاء لبنان الاتحادي (الفدرالي). بعبارة أخرى، يريد من القوى العظمى فرض الفدرالية على المسلمين، أو فرض العلمانية الشاملة عليهم. أخطأوا هم بضمّنا، ويريد جرمانوس تحميلنا المسؤولية، وتدفيعنا الثمن!



جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط

أخبار ذات صلة