الأحد 13 تشرين الأول 2024 - 0:00
خاص (أيوب)
ما يمرّ به لبنان منذ السابع عشر من أيلول الماضي يختلف نوعياً عن كلّ ما جرى على الحدود مع فلسطين المحتلة ابتداء من الثامن من تشرين الأول العام الماضي. من مرحلة إسناد غزة، إلى مرحلة تقويض لبنان وإدخاله في الاحتراب الأهلي عبر خطوات إسرائيلية محسوبة بدقة، استناداً إلى تاريخ البلد المضطرب، ومنازعاته الطائفية المزمنة، وتنافسات الطوائف على امتلاك اليد العليا، لا من نصف قرن وحسب، بل منذ تأسيس لبنان.
تناوب الطوائف على الهيمنة
تناوبت الطوائف الكبرى على النفوذ والتأثير في التاريخ اللبناني الحديث: الموارنة قبل عام 1975، والسنة جزئياً بعد عام 1990، مع تهميش المسيحيين. ثم الشيعة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ثم اجتياح بيروت في 7 أيار 2008، واتفاق الدوحة في العام نفسه، الذي جعل تشكيل الحكومات محكوماً بالثلث المعطل. ثم جاء التفاهم الرئاسي عام 2016، بين التيار الوطني وتيار المستقبل، والذي أوصل حليف الحزب ميشال عون إلى قصر بعبدا بتأييد من القوات اللبنانية أولاً، عبر تفاهم معراب.
كان ذلك هو العصر الذهبي للشيعية السياسية، بحيث نال زعماء الطوائف حصتهم من التوافق. وجرى ذلك، بعد تغلّب النظام السوري على المعارضة السنية وتهجير نصف السكان، بحلف روسي إيراني، وقبول أميركي تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ثم انتشار النفوذ الإيراني في اليمن ابتداء من عام 2014 عندما زحف الحوثيون من معاقلهم في الشمال إلى صنعاء وباتجاه عدن.
عالم ينهار
كلّ هذا، بات الآن برسم الانهيار، إثر مغامرة حماس في الهجوم المشهود على غلاف غزة العام الماضي. قرّر نتنياهو ومعه الائتلاف الحاكم، وحتى المعارضة، بأن العدو الآن، هو الشيعة، وتحديداً، إيران ووكلاؤها في المنطقة. ومنذ اللحظة الأولى، اعتبر نتنياهو بأن ما تعرضت له إسرائيل، هو بمنزلة 11 أيلول، وأنّ الجواب لا ينبغي أن يقتصر على حركة حماس، بل بالدرجة الأولى، على من يقف وراءها، بالدعم والتمويل والتدريب، على مدى السنوات الفائتة، أي إيران. وهنا اختلف بشدة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي حذّر من تكرار أخطاء أميركا بعد 11 أيلول 2001. لكن نتنياهو لم يترك فرصة دون استفزاز إيران لتوريطها في حرب شاملة.
كانت إسرائيل تستعد للثأر من حزب الله، منذ الحرب الفاشلة في تموز 2006، ولم تنتبه لتنامي خطر حماس في غزة. فكانت الضربات الإسرائيلية للحزب أشدّ إيلاماً، حين بان انكشاف الحزب أمنياً على نحوٍ غير مسبوق، وسقطت قيادات تاريخية، وعلى رأسها أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله، وارتفعت الآمال الإسرائيلية بتغيير الشرق الأوسط، بدءاً من لبنان نفسه، وصولاً إلى طهران، ومروراً بكل الأذرع والوكلاء بين العراق وسوريا واليمن. لكن كيف تتغير المنطقة انطلاقاً من لبنان؟ هل بإقامة دولة قوية أم بإشعال فتنة وحرب أهلية جديدة؟
دولة قوية أم حرب أهلية؟
هذا الوضع بلغ في الأسابيع الماضية، أشدّ درجات الخطر والتعقيد، حين بان جلياً أنّ نتنياهو يحرّض اللبنانيين بعضهم على بعض، بما يتجاوز الأهداف المعلنة للعملية العسكرية التي أطلقها في لبنان، أي انسحاب أفراد الحزب إلى شمال الليطاني، وإرجاع مهجري إسرائيل إلى منازلهم في الشمال. فهو كما وعد الشعب الإيراني بتحريره من النظام الحالي، طالب الشعب اللبناني بالانقضاض على الحزب وقد وهنت قواه، وأردف الترغيب بالترهيب؛ فإن لم يثر الشعب اللبناني كما يرغب ويشتهي، فسيناله ما أصاب شعب غزة من دمار شامل. ثم تلقّف أنصار إسرائيل في إدارة بايدن، المعطى الجديد، لفرض برنامج سياسي، مفاده انتخاب رئيس للجمهورية غير خاضع لنفوذ الحزب، كنتيجة من نتائج الحرب الإسرائيلية، ومقدمة لإخراج الحزب من المعادلة السياسية تماماً.
ثم يأتي لقاء معراب برئاسة سمير جعجع قائد القوات اللبنانية يوم أمس، ليلامس التوجه الأميركي، وخارطة الطريق حرفياً. فهو طالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، لكنه استدرك بأن المساعي الدبلوماسية معطلة، وعليه، يجب انتخاب رئيس الجمهورية أولاً، ويكون متعهداً بتنفيذ القرارات 1559 و1680 و1701. ومعنى ذلك، أنّ على الرئيس المنتخب بمعزل عن التأثير الخارجي ووفق قواعد الدستور كما ينص القرار 1559 الصادر عام 2004، أن يتخذ القرارات اللازمة لحلّ الميليشيات غير الشرعية، ويبسط سلطة الحكومة على كامل الأراضي اللبنانية، قبل أن يطبق القرار 1701 الصادر عام 2006 الذي يقضي بانسحاب الحزب إلى شمال الليطاني، وانتشار الجيش واليونيفيل على الحدود. والمنطق يعاكس الترتيب الزمني لصدور القرارات الدولية في ظروف سياسية مختلفة، مما يعني ضمناً تعديل القرار 1701 مدمجاً بالقرار السابق رقم 1559.
ما المطلوب فعلاً؟
ما يدعو إلى الاستغراب أنّ لقاء معراب دفاعاً عن لبنان، غاب عنه الممثلون الحقيقيون للطوائف الإسلامية. وبغضّ النظر عن الأسباب، وهل هي شخصية أو سياسية، فإن الغائب الأكبر هم السنة، باعتبار أنّ الشيعة والدروز لديهم زعاماتهم الوازنة، فيما يبدو السنة بلا زعامة ولا وزن، في حين أنهم الطائفة الأكبر والأوسع علاقات في العالم العربي، والقادرون لو أرادوا على أن يكونوا بيضة القبان في السلام، وحزام الأمان في الصراع. وهذا الوضع الدقيق الذي تمرّ به طائفة كبيرة مثل الشيعة، كان يمكن مخاطبتها بشكل أكثر تلاؤماً من مجرد التعاطف. لا مجال للشك في أنّ الأحداث الأخيرة، أظهرت حدود القوة العسكرية للمقاومة والفارق التكنولوجي بينها وإسرائيل. لكنها كشفت أيضاً الحدود التي تقف عندها إيران، في دعمها للمقاومة، في لبنان كما في فلسطين. فلا الشيعة سيكونون غداً كما كانوا أمس، ولا الحزب كذلك. واليوم التالي سيكون مختلفاً جداً، لكن الشيعة كطائفة مسلحة لن تختفي بقرار أو انتخاب، بل لا بد من إجراءات سياسية واعية، وخطاب إعلامي ذكي، لاستيعاب هذه الحالة، بشكل مدروس ومتوافق عليه، من دون إقصاء أو تهميش، لأن هذين الخطأين أنتجا دائماً مآسي وكوارث.
جميع المقالات تمثل رأي كتابها فقط